محاضرة على صفحة المجلس العلمي المحلي، تازة، على الفايس بوك، عن
بعد:
موقع إتقان العمل والإبداع فيه من الدين الإسلامي الحنيف،
بتاريخ: 14/ 12/ 2020
https://bit.ly/4hDVDqe
أعيد إلقاؤها على لفائدة الأئمة المرشدين
19/ 02/ 2024
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله
أما بعد، فيا أيها الأحبة الكرام
أشكر السيد الرئيس الذي وجهني لإعداد هذه المحاضرة، وأشكر السادة
الأئمة المرشدين على تحملهم وعثاء التنقل إلى مقر المجلس، ليشاركونا مراسم
هذا اللقاء المبارك. وأشكر الإخوة الساهرين على تدبير هذا اللقاء.
أيها الأحبة الكرام: إن الله تعالى قد شرع للناس من الدين ما ارتضاه لهم
وجعله محققا لمصالحهم الدنيوية ومنافعهم الأخروية، وبناه بصورة يصل أثر
مكوناتها إلى كل ما يأتون وما يذرون في حياتهم؛ ذلك، لأن الهدف يتمثل في أن
تُطبع حياةُ المسلم في كل واجهاتها بطابع العقيدة الشرعي الذي يريد أن تكون كلُّ
حركة من العبد وكل سكون منه عبادةً لله تعالى.
والعقيدة بأوامرها ونواهيها، بوصفها «ما يعتقده الشخص في قرارة نفسه،
ويعقد العزم عليه، ويراه صحيحاً، سواء أكان صحيحاً في حقيقة الأمر أم باطلاً»
تضع نصب عينيها سعادة الإنسان، وتسخّر من أجل الوصول إليها وإفادته منها
كلَّ ما تملكه من أسباب ووسائل؛ فهي لم تأت إلا رحمة للعالمين بإصلاح أحوالهم
وتيسير حياتهم، من أجل أن ينتقلوا من حال إلى حال غيرها، يرفلون فيها في
ظلال العزة والكرامة ورغد العيش فيستشعرون نعمَ الله تعالى الظاهرةَ والباطنة،
ويشكرونه على ما آتاهم من خير وأمدّهم به من نعيم.
ولكي يتحقق مراد العقيدة فتكونُ الحياة على الصورة التي تريدها، فقد ألحت
على أن يكون كل عمل صالح ترضاه العقيدة عملا متقنا لا غش فيه ولا خيانة،
بل ألحت على تجديد أساليب الحياة والإبداع فيها، تبعا لما ينسجم مع الشرع
ويتفق مع مقتضياته.
وإذا كان الناس في العلم طبقات، يتحدد موقعُهم فيه بقدْر درجاتهم في
الإحاطة بخباياه، فإن التفاوت بينهم سيكون بيّنا في رصد الجسور المنتصِبة بين
ما يأتون مما تأمرهم به العقيدة وبين ممارساتهم الحياتية المختلفة المشارب
المتعددة التجليات، بُغية تبيّن آثار عقيدتهم في أعمالهم وإتقانها والإبداع فيها؛
فمنهم من يستطيع الاهتداء إلى ذلك، ومنهم من لا يَقدر عليه.
ولذلك، فقد سلك علماء الأمة مسالك تنبيهِ الناس إلى أهميةِ العقيدة وبيان
الصحيح منها والزائف، ودعوتِهم إلى استثمار أوامرها ونواهيها وتوجيهاتها في
صناعة حياة مجيدة يرفل المسلمون في ظلال المجد فيها؛ طهارةً وعلمًا وفوزًا
بالدارين.
وسنعالج هذا الموضوع من خلال الوقوف على أثر مكونين اثنين في إتقان
العمل والإبداع فيه. وهما الإسلام والإيمان، ولكين ما نريده متمثلا في النقط
الآتية:
إتقانُ العمل والإبداعُ فيه من منظور عقيدة التوحيد:
لما كانت عقيدة التوحيد تهتم بالتطبيق أكثر من اهتمامها بالتنظير؛ فلا قيمة
للقول فيها إلا إذا كان تحته عمل- كما هو معروف في أدبيات المسلمين- فإن
العمل يستقر فيها استقرارا محمودا ظافرا بالبحبوحة منها وبالسويداء من
تعاليمها.
ولما كانت عقيدة التوحيد تحض المسلمين على الاستقلال بمناطق الذّرى من
التميز بين الأمم، بالنظر إلى قيمة ما هم معتقدون فيه وتميُّزه عن غيره من
المعتقدات، فإنها تنبه على العض على المداخل التي تمكن الإسلام والمسلمين من
الاستقرار في مواقع الشامات؛ عطاء وجمالا وتميزا، والتي يأتي على رأسها
إتقان العمل والإبداع فيه.
فأما الإتقان فيعد مدخلا دعويا ذا بال؛ فهو يمكّن أهلَ عقيدة التوحيد من أن
يظفروا بثقة العالمين التي إذا تحققت تحقق بها تقارب عظيم بين الناس وبين دين
الله تعالى، وساد بها الاطمئنان إلى صلاح معتقدات المسلمين وحرصها على نفع
الآخرين. وهي الخطوة التي إذا تم الظفر بها كانت مجلبة لدخول الناس في دين
الله أفواجا من غير إعمال ضغط ولا قوة ولا سلاح.
وأما الإبداع في العمل فإنه يعد الوسيلة الأنجع لأن يقود المسلمون غيرهم
ولا يقادون، ويُسلِم الآخرون نواصيَهم بعد أن يجعلوا ثقتهم في الإسلام كاملة.
ولذلك، فإن أثر عقيدة التوحيد في إتقان العمل والإبداع فيه، بما يحقق التنمية
الاجتماعية المنشودة، يتجلى بوضوح في أعمال المسلمين الذين ينطلقون من
أوامر الدين وتوجيهاته وإرشاداته. وهو الأمر الذي لم يعد مكلّفا المرءَ كبيرَ عناء
في إثباته والتدليل عليه، ما دام المهتمون بعلم الاجتماع وعلم النفس قد أثبتوه؛
فالعلاقة بين الإنجازات الاقتصادية والتنموية وبين العوامل الدينية قائمة على أكثر
من مستوى 1 . (ومن أراد الاستزادة من هذا- مما يتعلق بأثر الدين في إتقان العمل
والإبداع فيه- فليرجع إلى ثلة من الباحثين الذين عبروا عن هذا. فكان منهم من
عالجه في مستواه الفردي، مثل ما ذكره عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في
كتابه: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص 67، الذي اهتم بـ”اكتشاف
الحوافز السيكولوجية التي تمتد جذورها إلى المعتقدات والممارسات الدينية التي
ترسم للفرد سلوكه وتبقيه عليه”. ومنهم من أكد هذا الأثر في المستويات
الحضارية الكبرى، مثل ما ذكره مالك بن نبي في شروط النهضة، 61 وما بعدها
تحت عنوان: “أَثَر الْفِكْرَةِ الدِّينِيَّةِ فِي تَكْوِينِ الْحَضَارَةِ”. ومثل ما ذهب إليه توماس
جولدشتاين في كتابه “المقدمات التاريخية للعلم الحديث- من الإغريق القدماء إلى
عصر النهضة، 113- 114، في معرض حديثه عن الطفرة الحضارية التي
عرفها العالم الإسلامي بأنه كان فيها “مدفوعا بعامل الفضول وبالدوافع الدينية”…