ندوة:
“تخليق الحياة العامة وترسيخ السلوك المدني وسيلة لتحقيق التنمية الشاملة”
تنظيم المجالس العلمية المحلية لجهة فاس- مكناس
تحت إشراف المجلس العلمي المحلي
تازة.
* * *
المداخلة الأولى: الدكتور عبد السلام رياح
“تخليق الحياة العامة وأثره في الارتقاء بالمواطن: المرتكزات والمقاصد.”
16/ 10/ 2019
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله القائل في محكم كتابه: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)» ن: 4. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله، المأثور عنه في سنته الطاهرة قوله الشريف: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» رواه الترمذي.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة الكرام، نحييكم تحيةَ ود وحب وإخلاص. ونشكر هذه الوجوه الطيبة التي تحملت الوعثاء، وركبت المشقات من أجل أن تشاركنا حفلنا هذا ومدارستنا هذه. ونشكر المجلس العلمي المحلي بتازة في شخص رئيسه وأعضائه وموظفيه، ونشكر مجالس الجهة التي تجشمت الصعاب وبذلت الجهود، من أجل إنجاح هذا الحفل البهيج. ونشكر مندوبية الشؤون الإسلامية بتازة، ونشكر علماءنا وأئمتنا وقيمينا ومرشدينا، ونشكر كل من أسهم، من قريب أو من بعيد، في إنجاح هذه الندوة المباركة. فإنما نحن بكم، ومنكم، وإليكم، أدام الله ودنا وتآلفنا من أجل خدمة هذا الوطن العزيز، تحت قيادة ملكنا محمد السادس حفظه الله بما حفظ به الذكر الحكيم.
كلمتي المتواضعة- أيها الأحبة الكرام- هي بعنوان “تخليقِ الحياة العامة وأثرِه في الارتقاء بالمواطن: المرتكزات والمقاصد”. وهي كلمة تتخذ الأخلاق الفاضلة منطلقا، وتتخذ الارتقاء بالمواطن هدفا ومقصدا. ولقد رُمتُ أن أقصدَ منها كلِّها مرتكزاتِها ومقاصدَها، حتى يكون القول مُسدَّدا بحول الله تعالى، وتكون المعالم واضحة، ويكون السير مستنيرا بأنوار المحجة البيضاء التي نسأل الله تعالى أن يَهديَنا إلى التمسك بها وألا نضل عنها.
ولما كان الأمر كذلك، فإني أحببت أن أقف على مفهوم الخُلُق؛ لغة واصطلاحا، لكي يتوضح ما نرومه منه؛ فقد تعددت السبلُ فيه، واختلفت وجهاتُ النظر بناء على خلفيات أصحابها ونظرتهم للكون والحياة.
تعريف الخُلُق:
جاء في لسان العرب أن «الخُلْق والخُلُق: السَّجِيّةُ»[1]. والسجية، كما ورد في الكليات للكفوي، هي «الطبعُ والمروءةُ وَالدّينُ»[2].
وأما الخلق اصطلاحا، فإنه يتحدد- كما ورد في المعجم الفلسفي لجميل صليبا- بكونه «حالا للنفس راسخةً تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية»[3]. وتنقسم إلى «أَوصاف حسَنة وَقَبِيحَة»[4]– حسب عبارة ابن منظور في اللسان.
وقد يتكلف الإنسان ما ليس من أخلاقه وما ليس من شِيَمه وصفاته؛ إرضاء للناس في مواقف معلومة. وهو ما ينكشف أمره فيه، لأن الأخلاقَ بصمَاتٌ مطبوعةٌ على صفحة النفس، فما تلبث أن تُؤتَى في الفعل والممارسة. وهو ما عبَّروا عنه بقولهم: الطبعُ يغلُب التطبُّع. وهو ما وردت الإشارة إليه في حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه: «مَنْ تخلَّق لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنه لَيْسَ مِنْ نَفْسه شانَه اللَّهُ»[5]. ولذلك، فإن الأولى ألا يَكتفي الإنسان- حسب عبارة عبد الله الرحيلي في كتابه: الأخلاق الفاضلة: قواعد ومنطلقات لاكتسابها- «بصلاح أعماله في الظاهر حتى يطمئن إلى سلامة البواعث التي بسببها عَمِلَها»[6].
وبعد هذا التحديد، فإننا نحب أن نقف على مرتكزات تخليق الحياة العامة وأثره في الارتقاء بالمواطن، ثم نردفه بالمقاصد المنشودة منه.
* * * * *
[1]– لسان العرب، مادة خلق.
[2]– الكليات، الكفوي، 429
[3]– المعجم الفلسفي، جميل صليبا، 539. وهو التحديد نفسه الذي وضعه الجرجاني في التعريفات. ينظر: التعريفات للجرجاني، 101.
[4]– لسان العرب، مادة خلق.
[5]– لسان العرب، مادة خلق.
[6]– الأخلاق الفاضلة: قواعد ومنطلقات لاكتسابها، عبد الله الرحيلي، مكتبة الملك فهد، الرياض، ط1، 1417هـ- 1996م، 26
مرتكزات تخليق الحياة العامة
تتبَّعنا هذه المرتكزاتِ، فوجدناها عائدةً إلى محاضنَ كبرى تتضمن غيرَها؛ فهي عائدةٌ مرة إلى ما هو شرعي، ومرة إلى ما هو نفسي، وعائدةٌ ثالثةً إلى ما هو إنساني. وسنقف عليها جميعا في الفقرات الآتية بحول الله تعالى:
مرتكزاتٌ شرعيةٌ:
لما كان الدين الإسلامي ما جاء إلا لإسعاد الناس في الحياتين؛ الأولى والآخرة، ولما كان لا يستهدف إلا إشاعةَ أجواء الرحمة بينهم، فإنه وجَّه المسلمين من خلال جناحَي الوحي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، نحو الأسس التي تنبني عليها رؤيتُه للحياة القائمة على العلاقات بين المرء وبين الآخَرين. وهي التي أجملَها قولُ سلمانَ الفارسيِّ لأبي الدرداء: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ». وأقرَّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له ذلك «فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ». رواه البخاري.
لقد كانت كلمةُ الحق في الحديث كلمةً محوريةً تتردد في كل جنباته؛ فهي مرتبطةٌ بالله، ومرتبطةٌ بالنفس، ومرتبطةٌ بالأهل، وهي متطلعةٌ لأن تشمل غيرَ هؤلاء جميعا. وهو ما يأتي صدَاه من عبارة: «فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ». والحقُّ غيرُ الواجب. وما كان حقًّا لجهة، فهو واجبٌ على جهة أخرى. ولذلك، فإن الحديث يقدِّم الفَرشَ الأوَّليَّ الذي تتبين من خلاله حقيقةُ الحياة؛ فهي ليست عبثًا يضرب فيها المرءُ كيفَ يشاء، ولكنها محصورةٌ بضابطي الحق والواجب.
إن هذا الفرش الأولي يُعد المنطلقَ الأساسَ لكل المرتكزات ذاتِ المرجعية الشرعية. فمرتَكزُ الأخوة بين المسلمين يجعلهم مؤهَّلين لأن يُخالق بعضُهم بعضا بخلُق حسن، ويسعى بعضُهم إلى فكِّ الضغائن المصطنَعة بينهم، ويُرجِعُ تصرفاتهم إلى الانضباط لتقوى الله تعالى، مصداقا لقوله عز وجل: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)» الحجرات: 10.
ومُرتَكز اللِّين في التعامل يمثل مَدخلا عظيما لتَشِيع الأخلاقُ الفاضلة بين أفراد المجتمع، وذلك ببيان ثمراته في رصِّ الصفوف وغَرس الألْفة في القلوب، مصداقا لقوله سبحانه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» آل عمران: 159، مُقرِّبا المفاهيمَ والممارسات من الأذهان والأفئدَة، بجعل من يعتمد اللِّينَ في القول والممارسة من عباد الرحمن «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)» الفرقان: 63.
إن اللينَ في كثير من الأحيان لا يُرى أثرُه حينما لا يُسمع خبرُه؛ فقد يَسلك المرءُ مسالكَ اللين في التعامل ولكن بدون أن يَشفعها بالكلمة الطيبة، يبقى لينُه غيرَ مُنتَبه إليه ولا مُلتَفَت إلى مراكبه وآلياته. ولذلك، فإن الله سبحانه أمرَ ببذْل الكلمة الطيبة وإشرابِ كل خطاب بها، فقال عز وجل: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» البقرة: 83، وقال جلت قدرته: «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)» الإسراء: 53.
وبقدر ما جاء الإلحاحُ في القرآن الكريم على الكلمة الطيبة، فقد جاء التشديدُ في التنبيه على طبع الكلام بالصدق وعدم الشطط فيه، فقال سبحانه: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)» ق: 18. وذلك ليوجِّه الناسَ إلى تحرِّي الصدق في الكلام وطبعه بطابع الطيبوبة والخُلق الحسن. حتى إن إلحاحه على التمسك بالكلام الطيب بلغ مبلغا عظيما مسَّ كيفية بناء التحية التي تربط بين الناس، فأمر بجعلها أحسن من التحية التي تبنى عليها، فإذا لم يكن، فلتكن مثلَها، فقال الله عز وجل: «وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)» النساء: 86.
إن الله تعالى يعلم– وعلمُه الحقُّ اليقين- أن النفوس البشرية كثيرا ما تميل إلى الغضب والتوتر والانتقام، فهي بشرية وليست ذاتَ منزع ملائكي. ولذلك، فإن الشرع نبهها إلى بالغ الأجر والثواب الذي تظفر به إن هي ركنَت إلى أخلاق الأنبياء، فقال تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)» الزمر: 10. فصاحب الأخلاق الرفيعة لا تُحتَسب حسناتُه بالطريقة التي تُحتسَب بها حسناتُ غيره؛ حيث يأخذ منها بغير حساب حتى يحقق منها مبتغاه، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» (رواه الترمذي)، فيبلغ الدرجاتِ الرفيعةَ والمنازل العليا إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، كما رواه جابر بنُ عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» (رواه الترمذي).
إن هذه المرتكزاتِ الشرعيةَ- وغيرُها كثير لم يتسع المجالُ لذكره- تستهدف أخلاقَ الفرد وأخلاقَ المجتمع بعده. فكل ما ورد منها إنما يراد منه الارتقاء بالفرد نحو مكارم الأخلاق. وإذا شاعت هذه الأخلاقُ بين الأفراد جميعا، فإن المجتمع يصير مطبوعا بطابع واحدٍ يرضاه ربُّ العزة سبحانه، ويسعى الدينُ الإسلامي كلُّه نحو ترسيخه في نفوس المؤمنين جميعهم.
مرتكزاتٌ نفسيةٌ:
جاء في حديث النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولُه الشريف: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» رواه البخاري. وهو قول يتبين منه أن الاستعداداتِ النفسيةَ والخُلقيةَ هي مركوزة في النفوس، مُثبَّتةٌ فيها بفعل الخالق سبحانه وبقَدَره.
إلا أن هذه الاستعدادتِ النفسيةَ الخلقيةَ لا تأتي كاملةً إلا في ما نَدَر. ولذلك، فإن تنميتَها ودعمَها وبذلَ الجهد في إكمال ما نقص منها، وتهذيبِ ما شرد عن الجادة الصواب وتشذيبِه، يعد السبيلَ الرشدَ في بلوغ الدرجات الرفيعة من الأخلاق. وذلك ما نطق به الشرع كثيرا في سياقات مختلفة.
لقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قولُه: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري ومسلم.
إن هذه الإجراءاتِ جميعَها، سواء أكانت استعفافا، أم استغناء، أم تصبرا، إنما هي تحمُّلاتٌ تجد النفسُ البشريةُ مذاقَها، وتستشعر ثقلَها عليها. ولذلك، فإنها تمثل صورا مختلفة للصبر. والصبرُ- كما يقول ابن بطال في شرح صحيح البخاري، 3/ 505- «أفضلُ ما أعطيَه المؤمنُ، ولذلك، الجزاءُ عليه غيرُ مقدَّر، ولا محدود» شرح صحيح البخاري لابن بطال، 3/ 505.
ولما تكون هذه المرتكزاتُ النفسيةُ عائدةً إلى الصبر، فإن الصبر آنئذ يغدو نبعًا فياضًا لكل مرتكز شبيه بها. وذلك مثلُ ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم من استَوصَاه، فقد روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ذلك، فقال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عَلِّمْنِي شَيْئًا وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعِيهِ، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» ، فَرَدَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لَا تَغْضَبْ» رواه البخاري والترمذي. بل إنه جعل هذه الصفةَ معيارا للقوة والغلبة والتحكم، فقال: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» رواه البخاري ومسلم.
إن أمرَ المرتكزاتِ النفسيةِ عائدٌ إلى محضن العواطف واللواعج والمشاعر، إنه القلبُ الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم، في ما يرويه عنه النعمانُ بنُ بشير رضي الله عنه: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ» رواه البخاري ومسلم.
مرتكزاتٌ إنسانيةٌ:
الملاحظ من تتبع المسار الإنساني عبر تاريخه الطويل، أن الأخلاق فيه ما وُجدت إلا لحماية الضعيف وتنظيم الحياة؛ فلا حمايةَ للضعيف من غير أخلاَق، ولا تنظيمَ للحياة بدون تخلِيقها؛ إذ بدون الأخلاق يتصرَّف القويُّ بقوته غيرَ آبِهٍ بغيره من الضعفاء؛ فتراه يُرعد ويُزبد في كل واد، ويتصرف في واجهات الحياة تصرُّفَ من لا يَرى غيرَه ولا يُحسُّ بوجود الآخرين.
لقد كان «إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، يَقُولُ: «ذَهَبَ السَّخَاءُ وَالْكَرَمُ وَالْجُودُ وَالْمُوَاسَاةُ، فَمَنْ لَمْ يُواسِ النَّاسَ بِمَالِهِ وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، فَلْيُوَاسِهِمْ بِبَسْطِ الْوَجْهِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ» (حلية الأولياء: 7/ 389).
وليس عبثا أن يَردَ في الأثر أن «سيروا بسير ضعفائكم»؛ حيث إن الضعيف لا يستطيع مقاومةَ ما يستطيع الأقوياءُ مُقاوَمتَه، ولا يقدر على السير بالجهد الذي يبذله غيرُه من القادرين. والهدفُ من الحياة في مجتمعٍ مُتراصِّ البُنيَان، مُحكَم الصفوف، أن تعبُر جميعُ مكوناتِه إلى برِّ الأمان بسلام ومحبة ووئام.
ولما كانت المرتكزاتُ الإنسانيةُ تسعى لأن تحيط بكل ما هو إنساني، فإنها اهتمت بوضع القوانين الضابطة للحياة التي لا يضيعُ بها حقُّ ضعيف، ولا يُعطَى بها قَويٌّ ما ليس له. ولذلك، فإننا نجد إصرارَ الإنسانية عليها على اختلاف مرجعياتها وأديانها وثقافاتها، فانتهى بها الأمر إلى إدراجها في دساتيرها وقوانينها.
* * * * *
المقاصد من تخليق الحياة العامة- بناء: الإنسان والمجتمع
لا شيءَ أصعبُ من بناء الإنسان، ولا شيءَ أقوَى على العمل من بذل الجهد في إصلاح المجتَمع، ولكنه يسيرٌ على من يسره الله عليه. وأمرُ الأخلاق ليس مطروحا في الطريق يأخذُه كلُّ من أراده، ويُعرضُ عنه مَن أرادَ أن يُعرضَ عنه، رغمَ أن الله سبحانه غرس في بعض النفوس استعداداتٍ نفسيَّةً تُؤهِّلُها إلى أن تكون قريبةً من حُسن الخُلق، حائزةً على نسبةٍ منه غيرِ هَيِّنَة.
ولذلك، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف أن التخلق بالخلق الحسن يُكتسب ويُبنَى ويُنمَّى عن طريق التدريب العملي والرياضة النفسية والمكابدة والمجاهدة؛ فقد روى أبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّى الشَّرَّ يُوقَهُ» رواه الطبراني في الأوسط، رقم: 2663، 3/ 118، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: 10254، 13/ 236.
وبناءُ الإنسان بناءً رَشدًا يمثل مَربطَ الفرس من بناء المجتمع؛ فلا مجتمع بدون أفراده. وتحضُرني هنا قصةٌ طريفةٌ لأحد المشتغلين بالسرد في البرازيل. فقد كان منشغلا بكتابة قصة، وكان إلى جنبه طفلُه الصغير، فأعطاه ورقةً عليها خريطةُ العالم، بعد أن مزَّقها، وقال له أعِد بناءَ الخريطة، قاصدا إلهاءَه بشيء حتى يبتعد عنه قليلا، فلم تَمض غيرُ هُنيهَة حتى جاءه الطفل الصغير بالعالَم مبنيًّا بعد أن رتَّب قصاصات الورقة، فقال الروائيُّ لابنه، عجبا، فكيف أعدتَ بناءَها في هذا الوقت الوجيز؟! فقال له ابنُه: لقد كان خلفَ الورقة صورةُ إنسان، فلما أعدتُ بناءَ الإنسان بُنيَ العَالم.
المقصد الأول: مقصد تثبيت الأخلاق الإيجابية في المجتمع:
إنه مقصدٌ جليل وهدفٌ نبيل؛ فبه تُزاح الفوضى، وبه تُدفع الاختلالاتُ إلى الظل، فيعيش الناسُ جميعا في أمن وأمان فيكونون كأسنان المشط فعلا؛ فلا الضعيفُ يعاني، ولا الكبيرُ يَستقوي على غيره؛ فما كان له من قوة تجدُه قد سُخِّر لخدمة المجتمع، وليس لخدمة ذاتِه على حساب الآخرين. وتنطبع الحياةُ العامة بطابع التوازن، فيتعوَّد الجميعُ على رعاية المصلحة العامة، وحمايةِ المِلك العام، ونُصرةِ المشتَرك الإنساني، بوصفه القاسمَ المشتركَ بينهم جميعا، فلا يميلون إلى خدمة الخاص على حساب خدمة العام الذي يستفيد منه الناس أجمعون، فتكون الحياة في بيئة صالحة، ويشيعُالذوقُ الحسن في الناس، فيسودُ الجمالُ فيهم، ويُقبلُون على ممارَسة حيَاتهم، ويَنفُرُون من كل ما يُعكِّر صَفوَ أمنِهم، ويدفعون بالسيئة الحسنة.
المقصد الثاني: كف الأذى عن الناس
حينما تَستَتبُّ الأخلاقُ الفاضلة في حياة الناس، فإن كثيرا من النتوءَات مما نرَاه اليوم مُكتَسِحا إياها، غَازيًّا جنبَاتها، لا يَبقى منه شيءٌ أبدا. والسِّرُّ في ذلك، هو أن الإنسَانَ يكون قد بُني على الوجه الصحيح الذي ينصرف فيه عن الظلم، ويبتعد فيه عن كلِّ ما يَعودُ إلى الآخرين إلا بالمعرُوف؛ أموالا ودماء وأعراضا، فيكون قد امتلَك كلَّ ما يمنعُه من الوقوع في ذلك، ملتزما بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» رواه مسلم وأبو داود والترمذي، ويكون قد تحصَّن بكل المحصِّنات التي تجعله حريصا على أن يكون مسلما بالمفهوم الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، في ما رواه عنه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رواه البخاري ومسلم. ومثل تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه حين سأله عن أَيّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فقال مما قاله صلى الله عليه وسلم: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ»» (رواه مسلم في، رقم: 84، 1/ 89).
وتحضُرني مفارقةٌ غريبةٌ بين كل ما تأسس في المنظور الإسلامي لتخليق الحياة العامة، وبين مشهد قريب من مشاهد ممارستنا للحياة. إنه مشهدُ تردِّي حالة الجوار بين الجيران إلا في حالات معدودة مما رحم ربك؛ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال، في ما رواه عنه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ» رواه البخاري وأبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» رواه أحمد، 20/ 29. فانظر إلى القضايا المعروضة على المحاكم، فإنك ستجد نسبةً ليست بالهيِّنة منها عائدةً إلى قضايا الجيران، وانظر كيفيةَ التعامل مع الجيران في العمارة الواحدة، فإنك لا تَسمع تحية، ولا تجدُ مساعدة، ولا تَلمسُ تآلفًا ولا محبةً إيجابية بينهم. وعلى النقيض من ذلك، فإنك تجد غمزًا ولمزًا وتجسُّسًا وتتبعًا للعوْرات وإيذاءً متنوعا وهَتكًا للأعراض وإشاعةً للأسرار وضغينةً وقطيعةً… ولائحةُ هذه الأوصاف تطول.
ومقارنةٌ بين الوضع الذي ننشده من تخليق الحياة العامة، وبين الوضع الخُلُقي المتردِّي في المجتمع، تبيَّن أن الناس لو تمسكوا بنسبة زهيدة مما ذُكر لأكلُوا من بين أيديهم ومن خلفهم في راحةِ بال وطمأنينةِ نفس؛ ذلك لأن ما ذكرناه وما سنذكره بحول الله تعالى، يحُولُ بينهم وبين الوقُوع في ما يقعون فيه في حياتِهم اليوميةِ دائما. ووقفةٌ على جانب قريب من جوانب الحياة، لتبيِّن حقيقةَ ما نذهب إليه؛ فالعائدُ إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها الفايس بوك واليوتوب، ليجد أن ما يعرف ب tendence أو ما يرغب فيه المتتبِّعون، يميل ميلا شديدا إلى الفضَائح والتدخل في ما لا يعني الناس. وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، في ما رواه عنه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» رواه الترمذي.
ويميل ميلاً عظيما إلى التسمُّع. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قولُه: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة» رواه البخاري، بل إنه صلى الله عليه وسلم نَبَّه على خطورة ذلك بقوله: «وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَة» (الآنك) الرصاص المذاب. رواه البخاري.
ويميل ميلا ظاهرا إلى تتبع العوْرات، غيرَ منتبِهٍ إلى خطورة ذلك، وغيرَ آبِه بما رواه أبو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (رواه أبو داود في كِتَاب الْأَدَب، با فِي الْغِيبَةِ، رقم: 4880، 4/ 270.
ويميل ميلا مقصودا إلى ترويج التَّافِه من القول والمنحرف من الفعل، من أجل أن تُفوَّتَ على المجتمع فرصُ النجاح، بإضاعة وقتِه في ما لا ينفع، وإلهائِه عن البناء والعمل الجاد.
وجلُّ ما تجده في تلك الشبكات إنما هو محضُ افتراء وتَصفيَّةُ حسابات.
والأغرب من هذا كله أن تجد كلَّ مَن يتلقى الخبرَ يتَلقَّاه بفمه قبلَ أن يتلقَّاه بسمعه وتدبُّره والتبيُّن فيه، مصداقا لقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)» (الحجرات: 6). فيردِّده دون تريث، ويستجيب مباشرة لقول القائل: partager. ويحسِب الأمرَ هيِّنا وهو عند الله عظيم، فيصيبُه التهديدُ والوعيدُ الذي يتضمَّنه ما رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم، حين سأله عن عَمَلٍ يُدْخِلُه الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُه عَنِ النَّارِ، فقَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْه(…)ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» رواه الترمذي، رقم: 2616، 5/ 11.
المقصد الثالث: إلزَامُ النفس بمَا لها، وردُّها عما ليسَ لها
وهذا مقصدٌ سامٍ يحرص عليه الشرع، لا يقل أهمية عن سابقه. وهو المتمثل في ترويض النفس على القناعة التي إذا فُقدت فُقد بها خيرٌ كثير، وفاتَ بفَواتِها انتماءُ الإنسان إلى بني الإنسان الأحرار؛ إذ «الحرُّ عبدٌ مَا طمِع، والعبدُ حرٌّ ما قَنِع». وهو الذي يلخصه الحديث الشريف بقول النبي صلى الله عليه وسلم، في ما يرويه عنه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: «مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» رواه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم: 471، 1/ 151.
إن انغراس الانشغال بالدنيا في القلوب هو مبعث الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، لأن الانشغال بالدنيا يجعل نفس الإنسان منشغلة بالمقارنات التي يكون المرء في غنى عنها. ولذلك، فقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم لخطورتها. فسواء أتعلق الأمر بالمال أو بالولد أو بالصحة أو بالجمال أو بغير هذا كله، فإن الشرع قد صرف اهتمامنا إلى أن ننشغل بمن هو دوننا ممن لا يمتلكون هذه النعم. وقد روى أبو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَولَه: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ»» رواه البخاري ومسلم.
وتحضرني هنا ملاحظةُ النبي صلى الله عليه وسلم حرصَ بعض الأنصار على الحصول على المتاع بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف ردَّهم ردا جميلا، وكيف علمهم التحكم في نفوسهم؛ فقد روى «أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفِّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرُهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري.
وقد وقف ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري على هذا الحديث، فربط بين القناعة وحدوث البركة في المال، فقال: «يدل أن القناعةَ وطلبَ الكفاية والإجمالَ فى الطلب مقرون بالبركة، وأن من طلب المال بالشَّره والحرص، فلم يأخذه من حقه لم يُبَارَك له فيه، وعوقب بأن حرم بركة ما جمع.» شرح صحيح البخاري لابن بطال، 3/ 505.
فعدمُ القناعة في الحياة، واللهثُ وراء السَّراب الذي قد يطلُع بشيء وقد لا يطلُع، يفرض على الإنسان أن يتملَّقَ غيرَه، وأن يكذِب، وأن ينَافق، وأن يخالفَ الحقائقَ وهو يعلمُها، وأن يُعطي الدَّنيَّة من نفسه وقد خلقه الله مكرَّما منذ الأزل، فيريدُ بنفسه كيدًا وهو لا يَدري. وهو ما يُهدِّده بألا يكون من زُمرة المسلمين، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم، في ما رواه عنه أبو ذر رضي الله عنه: «وَمَنْ أَعْطَى الذُّلَّ مِنْ نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ، فَلَيْسَ مِنَّا» رواه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم: 471، 1/ 151.
المقصد الرابع: تحقيقُ جسدية المجتمع
لقد كان من المقاصد التي يقصدها الدين الإسلامي من تخليق الحياة العامة، تحقيق ُجسدية المجتمع التي تظهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم، في ما رواه عنه النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه مسلم. وهو القول الشريف الذي يقترب منه ما رواه أبُو مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَه» رواه البخاري.
إن هذه الجسدية المنشودة للمجتمع من لدن الشرع لن تتحقق إلا باهتمام كل فرد بهموم غيره، من أجل الإسهام في حلها، أو التعاطف معهم بشأنها، وليس من أجل ترويجها واستهلاكها، فيصبح كلُّ فرد كأنه يعيش لغيره كما يعيش لنفسه، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِالْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ» رواه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم: 471، 1/ 151.
ومن الاهتمام بأمور المسلمين الذي يُورِّث جسديةَ المجتمع نصرةُ الضعيف وإغاثةُ الملهُوف، دون تشفٍّ ولا تهكُّم ولا احتقَار.
ومنه أيضا أن يُستَحضَر الضعفاءُ والعَجزةُ وواهِنُو القوة في كل سير جماعي، فتسير الجماعةُ بسَيرهم. فقوةُ الناس تختَلف وتحمُّلُهم يَتبَايَن، وإذا أُهمِل الضعيف، فإن ذلك يمثل أولَ مراحل تفكُّك الجمَاعة وانحلالها.
إن جسدية المجتمع إذا تحققت، تحقق بها انطباع المجتمع بطابع خاص لا يبلغه كثير من المجتمعات؛ حيث تُمدُّ الجسورُ الواصلة بين الأفراد، وتسود الألفة والرحمة والتعاون والحرص على المصلحة العامة، فيصير المجتمع بذلك بنية مكونة من عناصر تربطها علاقات إيجابية، في حين تبقى المجتمعات المفتقِدة لهذه الخاصية بعيدة كل البعد عن التمتع بهذا الوصف، فتكون آنئذ تجمعاتٍ بشريةً، وليست مجتمعاتٍ إنسانيةً.
خاتمة
وبعد هذا كله، أيها الأحبة الكرام، نصل إلى خاتمة هذا البحث المتواضع الذي اتخذت له “تخليق الحياة العامة وأثره في الارتقاء بالمواطن: المرتكزات والمقاصد” عنوانا. وقد تبين لنا، خلال الرحلة التي قطعناها فيه، أن تخليق الحياة العامة أمر بنيوي، يمس الحياة كلها، كما يتصل بأفراد المجتمع جميعهم، وأنه لا بد له، لكي يستقر في واجهات الحياة كلها، من مجاهدة ومكابدة ومواصلة؛ فلا يمكن للمجتمع أن يتخلق بأخلاق فاضلة بين عشية وضحاها، ولا يمكنه أن يحقق هذا المرام الجلل بالتزامه مدة زمنية محددة ثم يقلع عنه إلى غير رجعة.
لقد توضح لنا أن تخليق الحياة العامة يقوم على مرتكزات، يتقاسمها الشرعي والنفسي والإنساني. وإذا كانت الرؤى تختلف بشأنها- اختلافها بشأن الأخلاق كلها- فإنها تجد مرتعا خصبا في شرعنا الإسلامي الحنيف. كما أن لها مقاصدَ جليلة فيه، يأتي على رأسها الارتقاء بالمواطن الذي يمثل النواةَ الأولى للمجتمع، والقلبَ النابض فيه، فإذا صلح صلح المجتمع كله، وإذا فسد فسد المجتمع كله، فلنهتم بأمره، ولنعتن ببنائه، حتى نظفر بعطائه السرمدي في مسيرة البناء والتشييد لبلدنا الحبيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * * * *
لائحة المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم برواية ورش.
* لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين بن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ)، دار صادر، بيروت، ط3، 1414هـ.
* الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفى: 1094هـ)، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، بدون رقم للطبعة ولا تاريخ.
* المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني- مكتبة المدرسة، بيروت، 1982م.
الأخلاق الفاضلة: قواعد ومنطلقات لاكتسابها، عبد الله الرحيلي، مكتبة الملك فهد، الرياض، ط1، 1417هـ- 1996م
* الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
* المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون رقم للطبعة ولا تاريخ.
* شرح صحيح البخاري، ابن بطال، أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: 449هـ)، حققه أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1423هـ- 2003م.
حلية الأولياء
* المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)، تحقيق طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، بدون رقم للطبعة ولا تاريخ.
* شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، تحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد، الرياض- الدار السلفية، بومباي، 1423هـ- 2003م.
* سنن أبي داود، أبو داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا– بيروت.
* * * * *