بسم الله الرحمن الرحيم
المرأة وبناء المجتمع
التوظيفات الكائنة والطاقات الكامنة
الدكتور عبد السلام رياح
محاضرة لفائدة تلاميذ الثانوية التأهيلية التقنية
الثلاثاء 09/ 03/ 2021
مقدمة:
الحديث عن المرأة وأدوارها في بناء المجتمع حديث ذو شجون؛ فهو حديث تتنازعه أطراف عديدة؛ منها الداعي إلى تقييد حرية المرأة تقييدا مجحفا، ومنها الداعي إلى إطلاقها من براثن الالتزامات حتى تُرى وكأنها تمارس حياتها في العبث غير الخاضع لشرع ولا قانون. ولذلك، فلا بد من تحديد مجموعة من الاحتياطات المنهجية التي تبين رؤيتنا وتوضح للمتلقي ماذا نريد. فلما كان الموضوع شائكا، ولما كانت التجاذبات تتنازعه من جهاته المختلفة، فقد أحببنا أن نضع هذه المعالم التي نعدها محطات هاديةً إلى كلمة سواء في الموضوع؛ حيث لا يكون ميلٌ محكوم بالنزوات إلى المرأة، ولا يكون ميل عليها، فيكون مطبوعا بطابع العداء والكراهية والمواقف المجحفة. وهذه المعالم الهادية نحددها في ما يلي:
لا يدخل كلامنا في إطار المنافسة بين الرجل والمرأة؛ فلا وجود للرجل بدون المرأة، ولا قيمة للمرأة في غياب الرجل. وكل من يعتقد أن حياته تكون حياة مستقيمة حين يقيمها على العزلة والابتعاد ومعاداة مَن جعله الله مكملا له لتستمر الحياة على الوجه المطلوب، يكون متمسكا بالجادة غير الصواب، بانيا رأيه من خيوط العنكبوت، وإن أوهن بيت في الوجود كما قرر القرآن الكريم هو بيتها.
المرأة تتخذ حالات متعددة؛ فهي الأم وهي الزوجة وهي الأخت وهي البنت وهي القريبة أو البعيدة من بنات المسلمين ونسائهم. وهذه الأطراف جميعها يحن إليها الإنسان- أيا كان- ويبدي ولعه بها ويعبر عن تعلقه بالاجتماع معها؛ فالأم محضن الأمل، ومبعث الرحمة، ومزرعة المحبة التي تلقاها الإنسان منذ نعومة أظافره، ورضعها من ثديها منذ البدايات الأولى. والزوجة هي أم الأولاد، وهي شريكة العمر، وهي مُصلحة حال الرجل والمهتمة بشأنه. وهي فيض المحبة الدائمة. والأخت محضن المحبة المترعة المؤسسة على المودة والألفة. وهكذا دواليك.
أولا: التوظيفات الكائنة:
إن إطلالة خاطفة على التوظيفات التي تخضع لها المرأة في الواقع العالمي، لتبين أنها توظيفات تسعى بها لأن تجعل منها شيئا من الأشياء، لا لأن تحيطها بمواصفاتها الإنسانية التي تختص بها وينبغي المحافظة عليها.
فإذا نظرنا إلى القنوات العالمية، فإننا نراها تسعى جاهدة لأن تستغل أنوثة المرأة في الإشهار، وتحرص حرصا لافتا على مضاعفة الكشف عن المفاتن من أجل أن تكون وسيلة لبيع المنتوجات وتسويقها. وقد نجد مسوغ استعمال المرأة في إشهارات الطبخ ومواد التجميل وعرض الأثاث المنزلي قائما مقبولا. ولكننا نتساءل عن الهدف من جعل المرأة مكونا من المكونات الإشهارية لعجلات السيارات، أو السجائر بأنواعها، أو الخشب، أو مواد البناء… إنه لا يبقى أي مسوغ لاستعمال المرأة في الإشهار غيرُ مسوغ عدِّها وسيلة جذب للزبناء، فالعزف على أوتار النزوات العاطفية المنحرفة هو المسلك الموصل إلى قلوب الزبناء وتفاعلاتهم النفسية قبل أن يُتخذ القرار النهائي المتمثل في استخراج ما تحتوي عليه الجيوب. وإذا نظرنا إلى ظفر المرأة بوظيفة من أجل أن تحقق استقلالها المالي، فإننا في كثير من الأحيان حينما نريد أن نشيد بها، فإننا نأتي بسيرتها في معرض المنافسة مع الرجل: فنقول لقد نافست الرجل، وقد حصلت على المناصب العليا، وقد وقد… وهو أمر لا ينبغي أن ننظر إليه بهذه الطريقة؛ فنحن بناء واحد وصرح واحد ومن ظفر بالوظيفة ليس كائنا غريبا عن المجتمع.
وإذا نظرنا إلى الواجهة المتعلقة بالنضال السياسي المتمثل في الحصول على حق التصويت أو الترشح في الانتخابات أو تولي منصب من المناصب، فإن ذلك يلهينا عن الاهتمام بأدوارها الأساسية التي تبني بها المجتمع، وتدفع به للانتقال من حال إلى حال إيجابية أحسن منها. إن أدوار المرأة في تاريخ المسلمين هي قيادةُ العمل الاجتماعي وتخفيفُ المعاناة عن المحتاجين. ولعل من الشواهد التاريخية التي تذكر في مثل هذا الموقف، زبيدة بنت جعفر زوجة الخليفة هارون الرشيد، التي قامت بعمل خيري عملاق؛ فعند حجها وزيارتها للبيت الحرام رأت بأم عينيها ما يعانيه أهل مكة حين طلبهم الماء، فأمرت خازن أموالها بأن يأتيهم بالماء ولو كانت المسافة بعيدة. ولما قام الخازن بدراسته الخاصة بالمشروع، أبلغها أنه مشروع سيكلف خزينة الدولة ما لا تطيق، فقالت كلمتها التي سارت بها الركبان: أنجز المشروع ولو كانت ضربة معول بدينار. (كان الدينار العباسي يساوي 40 دولارا).
ثانيا: الطاقات الكامنة:
إذا كانت المرأة هي بانية الأجيال ومصدر العطاءات الدائمة في كل حين، فإن جوانب من شخصيتها لم يُستفد منها الاستفادة الكاملة. ولو أن المجتمع أولى هذه الجوانب كبيرَ اهتمامه فإن عطاء المرأة يكون عطاء موفورا، عطاء غير مجذوذ. ومن ذلك، أن تكون المرأة متميزة بعاطفتها الجياشة ورحمتها النبيلة تجاه الأيتام والفقراء والمحتاجين. ولو أن هذا الجانب من عاطفتها تم تفعيله أكثر لكان للفقراء والأيتام والمحتاجين وضع اجتماعي آخر. ونحب أن نقف على ملامح هذه الطاقات الكامنة التي تتميز بها المرأة في الفقرات الآتية:
أ- قدرتها على تحويل العواطف النفسية الداخلية إلى أفعال إيجابية:
ولننظر إلى هذا المشهد الصغير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف حولت المسار من وضع كان الناس يتعاطفون فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين يشرع في الخطبة، فيكون قائما غير مستند إلى شيء، فيصاب بالتعب والأرق. فكان الناس كلهم يتعاطفون معه في هذا المشهد، ولكن إحدى النساء بادرت إليه، وقالت، في ما رواه جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتِ» فَعَمِلَتِ المِنْبَرَ» (رواه البخاري). إن الشاهد صغير، ولكن دلالته على أن مبادرات المرأة وعطاءاتها كانت دائما متميزة منذ القديم دلالة قوية جدا.
ب- تميز المرأة بعاطفتها الجياشة ورحمتها النبيلة تجاه الأيتام والفقراء والمحتاجين:
ولننظر إلى هذا المشهد المتواضع العظيم من حيث قيمته ومردوده الإنساني الذي يكشف عن عاطفة الأمومة لدى المرأة؛ فقد روت «عَائِشَة رضي الله عنها فقالت: «جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ». فهذه العاطفة هي التي ينبغي أن نتتبعها من أجل تحريكها وتفعيلها والانطلاق بها في بناء المجتمع، وليس تلك المظاهر الخارجية القائمة على الإغراءات والنزوات.
ج- تميز المرأة في العطاء والصدقات والوقف:
لقد تميزت المرأة في تاريخ المسلمين بالعطاء والصدقات والوقف. وأولى المبادرات التي ظهرت في تاريخ المسلمين. ما روته «زَيْنَب امْرَأَة عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: كُنْتُ فِي المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، قَالَ: فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى البَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي، وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لاَ تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «مَنْ هُمَا؟» قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ؟» قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ» رواه البخاري. «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ، إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ؟ فَقَالَ: «أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ»».
ولو أن المرأة تتحكم في أقوالها، وتتعامل مع زوجها على الوجه المرضي، لظفرت بما لا يظفر به غيرها من الأجر والثواب والدرجات الرفيعة في الجنان. ولو أننا نقف على مواقف المرأة ومشاركتها في بناء المجتمع عبر التاريخ لطال بنا الحديث. وإذا اكتفينا بالإشارة إلى أن جامع القرويين الذي طارت شهرته في الآفاق بنته امرأة، وأن جامع الأندلس بمدينة فاس بنته أختها، لتبين لنا أن حضور المرأة حضور لافت.
د- تميز المرأة بالعزيمة التي تصنع بها شيئا من لا شيء:
كلنا نذكر استشراء الأمية في المجتمع المغربي إلى عهد قريب استشراء لافتا. وبعد أن تدخلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بأمر ملكي سام، فأبدعت مشروع محاربة الأمية الذي أجادت فيه وأفادت، كان من بين مكوناته تحفيظ كتاب الله تعالى. فكان أغلبُ النساء المغربيات لا يعرفن القراءة ولا الكتابة، حتى إذا وقفت إحداهن أمام علامة تحمل اسم إدارة أو مؤسسة أو مصلحة من المصالح، فإنها لا تعرف ما ذاك، ولا على أي شيء يحيل.
ولكن الآن صارت من كانت أمية حاملة لكتاب الله تعالى، وأصبحت من لم تكن قادرة على نطق الحروف نطقا سليما، مجودة لأعلى النصوص العربية بلاغة. وهي النصوص القرآنية الكريمة. وأمست من كانت تقطِّع عمرها في المطبخ وأشغال البيت والهراء الذي لا يجدي، مستشارة تدير فصول الدراسة في المساجد، ومرشدة تؤدي مهمتها في الإرشاد الديني.
خاتمة:
فالمرأة من خلال هذه الوقفات العجلى تظهر بكونها فاعلة في محيطها قبل أن تكون ناقمة على المجتمع. ومن ثم، فإن كل من يريد أن يوقع بين المرأة والرجل، فيدفعها إلى الإحساس بكونها قد تغلبت وسيطرت. وهو ما يثير الحساسيات لدى الأطراف الأخرى، فإنه يكون صاحب نية مبيتة، تدفع المجتمع إلى الهاوية، بدل أن تنقله إلى المعالي، وتفكك عراه وأواصره بدل أن ترقع جنباته وتوطد أركانه.
لائحة المراجع
- القرآن الكريم.
- الجامع الصحيح للبخاري.
- قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، محمد الغزالي، دار
الشروق، القاهرة، ط7، 2002. - أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة، بشر بن فهد البشر،
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1415ه.